
رحلةُ خرية
باكراً ودّعتها على عجل، كانت تكره سيجارة الصباح فتكفهرّ مقرقعةً معلنةً بتكبر أنها تستعجل الرحيل، أُحرقِصها بشفّة قهوة فتستشيط: طالعني!. حسناً انت طالعة طالعة. أركض سعيداً إلى بيت الراحة وتصفّح فيس بوك، معلنًا بدوري عدم اكتراثي لرحيلها، لكن! الرائحة تشدّني. غريبة تلك الميكروبياتا!. كيف تحتلّنا من الداخل تاركة رائحة من عاشرنا!. للأسف هذه أخر قطعة من جسدي، ستحمل شيئاً من رائحة نرجس. في الأمس قررنا أن ننفصل، كان أشبه بأن تفارق شخص الأمل.
حسنًا! سأسمي خريتي الأخيرة التي تحمل شيئاً من طيب نرجس "أمل". وداعاً يا أمل!. أتشطّف بعناية كمن ينهي عملية قلب مفتوح. أشدّ السيفون الصاخب على "أمل" التي تختفي بلمح البصر تحت ضغط التدفّق الهادر. يحزنني أيضًا أن أفقد هذا الكم من المياه في مدينة ماؤها مالح.
أنا أسكن في شارع الحمرا. أرقص عندما تسمح الدولة، ووفق جدول المواعيد التي تحدّده وزارة الصحة. في النهاية، أنا لست بحرّية أمل، لا أخرج فوّاحاً مغترّاً، أجوب المدينة مع رفاقي وأخالطهم بلا خوف. لا أعتقد أن أمل تعاني من مشاكل وجودية على الإطلاق. إنها تتكوّن في داخلنا نتيجة ما نتغذى عليه. نحمِلها ساعات التكوين ثم نطلقها إلى حياتها المائية لتكمل دورتها اللانهائية دون أدنى تربية. إذا فكرنا فيها، أمل تلك خرية مستقلّة وقوية. أسأل نفسي أحياناً: أين "أمل"؟ أعالقة عند مفترق المجاري بين تيّارين مثلي؟ أم أنها تستمتع بحرية أن تكون مجرد خرية، لا أوراق مطلوبة ولا لقاحات؟ لا أظن أنك ستسمع في المجاري عن أن قوات البول الأصفر تطلق حملات عنصرية ضد حبّات الذرة أو قشور البندورة لأنها مختلفة ولا تهضم، قوّات التمر لا تقصف الجبهات التفاحيّة ، وبالتأكيد لا يوجد في هذا المجتمع المعلوك أي تمييز بين الحلوى المكشوفة وغير المكشوفة!
أهرب من أفكاري الخرائية إلى البحر، ليس هناك أفضل من طعام صحّي للاحتفال بيوم عزوبيتي الأول والمتجدّد. سمكة طازجة مشوية بدون إضافات. فقط شرائح الليمون السميكة وبعض الملح. وصل الطعام تماماً في الوقت المناسب! عند مشهد الغروب لهذا المطعم الفاخر المطلّ على الكورنيش. رائحة الطرطور، البيرة القوية، وهذا الغروب الجميل. هذا كل ما أحتاجه لأنسى.
أول قضمة من السمك، صاحت في فمي: طالعني!!(صدمة) أصيح مستغرباً "أمل"!؟ (أبصق اللقمة وأنظر إليها بتمعن)، إنها "أمل" ممزوجة بنسيج هذا اللحم الأبيض! لكن كيف!؟ ترد أمل: إنه وجهك المشؤوم أو حظي العاثر.
- آه يا عزيزتي، لقد صغرتِ!
- "لم أصغر أيه الأبله"، تردّ بصوت رفيع. "هذا جزء مني لا أكثر، أنا الآن في كل مكان" (تبدأ بالضحك بشكل هيستيري)
أخاف قليلاً منها وكثيراً على صحتي العقلية. أطلب النادل بصوت عالٍ: يا مسيو في خرية بصحني!. يلفت انتباهه الصمت المدقع الذي أضافته جملتي الجميلة على المكان و وجوه الحاضرين. ينظر إليّ من خلف كبرياءه. كنت أشعر أن اتيكيته الفرانكوفوني يدعوه بلباقة لطعني في بؤبؤ عيني بأول شوكة يجدها. الجدير بالذكر أنّني استطعت الإحساس بهالة الغضب هذه من على بعد مائة متر من خلف البار والمارّة التائهين، ومن خلال إطار نافذته الصغيرة. رأيت عينه اليمين تقدح. انتصب "الـغارسون" وأتاني صارماً. ضحكت بيني وبين نفسي قائلاً: أمسك نفسك ولا تعترف أنها خريتك، هذا لن يصبّ في مصلحتك في القضية.
- مسيو! قالها غاضباً وأكمل بالفرنسي كلمات لم أفهم منها حتى مشاعره تجاهي
- ممكن تحكي عربي لو سمحت!
- مسيو! (صمت) كيف فيني ساعدك؟
- غارسون! (صمت) في خرية بصحني. (أنظر بطرف عيني لا أجدها على الطبق. لقد اختفت أمل.)
"هل كنت أهذي" أقول لنفسي. (ينظر هو للطبق منتظراً مني أن أدلّ بإصبعي على حجة كافية لإثارة هذه الجلبة غير المسؤولة). "شمّ!" أقول له وأقدّم الطبق، وبينما يشمّ أفكر: ليست الرائحة حجة قوية في قضية تتعلق بالسمك. يشم طبق السمك بتمعن. يقتفي أثر أمل بأنفه الطويل ، حدّق في عينيّ وقال بصوت مرتفع:
- مسيو! نحنا منعتذر منّك إذا السمكة مش مستوية بالدرجة اللي بتحبها، أو إذا في رشّة بهار خطأ. بس بتمنّى تتّفق معي انو جملة "في خرية بالصحن" مش لائقة ولا دقيقة! ولا شو رأيك؟ (يقول الجملة الأخيرة بصوت خافت وكأنه يعرض عليّ التراضي وتفادي أي مسٍّ بصورة مطعمه)
- (أحدّثه بصوت خافت) صدقني! أنا أعرفها. اسمع، أخبرني بصدق، من أين يأتيكم هذا السمك؟
- (يشير النادل مبتسماً بفخر) طازجاً من هذا البحر.
- انت بتعرف انو هون المجاري؟ طبيعي لاقي خريتي بالسمك!.كيف ضميرك بيسمحلك تطعمي الناس خراهون؟
- طلاع لبرا!
- (أصرخ بينما يلقون بي خارجاً) يا ناس يا هو! انتوا عم تاكلوا خرا!.